لم تكد تمضي ثلاثة أيام على سقوط طرابلس في أيدي «الثوار» يوم 20 آب العام 2011، حتى وقع أول الاشتباكات بين المجموعات المسلحة التي أبصرت النور خلال الأشهر الثمانية التي سبقت انهيار نظام معمّر القذافي. يومها، هوّن المتفائلون بتحقيق الديموقراطية في ليبيا من وطأة تلك الاشتباكات، فاعتبرها البعض ظاهرة موقتة يمكن السيطرة عليها فور انتقال ليبيا من دولة قائمة على «حكم الفرد» إلى دولة قائمة على «حكم القانون». لكن الطريقة البشعة التي قتل بها العقيد القذافي في 20 تشرين الأول العام 2011، والتي شاهدها العالم فور وقوعها عبر شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، كانت بالنسبة إلى كثيرين جرسَ انذارٍ لمستوى العنف الخطير الذي يضرب ليبيا، ومؤشراً خطيراً على انفلات أمني لا يمكن احتواؤه بسهولة.
ومع ذلك، فإن الغرب انتظر ما يقرب من سنة حتى تنبّه إلى خطورة الانفلات الأمني ليبيا، وذلك حين تجرّع كأسه المر بمقتل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز في الهجوم الشهير على مقر القنصلية الاميركية في بنغازي في الذكرى الحادية عشرة لهجمات 11 أيلول العام 2011 في الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، بدأ الحديث عن خطورة ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا، فراحت حكومات «أصدقاء ليبيا» تضع السيناريوهات المحتملة لامتداد الانفلات الأمني إلى دول الجوار، وتعد الخطط التي يمكن من خلالها استثمار هذا الانفلات لتكريس هيمنة أمنية تضمن المصالح الغربية في شمال إفريقيا ومنطقة الصحراء الإفريقية.
إرث القذافي
قد يكون من الظلم القاء تبعات الانفلات الأمني الذي تشهده ليبيا منذ نحو سنتين على «ثورة 17 فبراير» وحدها. صحيح أن الكثير من أعمال العنف كان مرتبطاً بأجندات فئوية فرضها تعدد التشكيلات العسكرية التي نشأت خلال «الثورة» وبعدها، إلا أن نظرة متأنية إلى تلك النزاعات تظهر أن الكثير منها يرتبط بتصفية حسابات التركة الثقيلة التي خلّفها العقيد الراحل خلال سنوات حكمه الأثنتين والأربعين. والواقع أن القذافي، بهدف حماية نظامه، كان بارعاً في انتهاج سياسة «فرّق تَسد» التي نجح من خلالها في تأجيج الصراعات بين المكوّنات الاجتماعية المختلفة، وذلك على مستويات عدة: قبلي، مناطقي، طبقي، ديموغرافي... وحتى عسكري.
وقد استغل القذافي التناقضات الحادة داخل المجتمع الليبي ــ والموروثة بدورها من أيام الحكم الملكي ــ فقام بتغذيتها، دافعاً بالمجموعات القبلية والمناطقية إلى التنافس للحصول على حظوة السلطة المركزية التي ارتبطت بشخصه. وعلى المستوى القبلي، نجح القذافي طوال فترة حكمه في إثارة التناقضات بين القبائل الليبية، فراح يمنح الامتيازات لبعضها على حساب البعض الآخر، حتى صار الحديث يدور عن قبائل موالية للنظام وأخرى معارضة له، ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تلجأ تلك القبائل إلى تصفية الحسابات في ما بينها بعد سقوط النظام. وعلى المستوى المناطقي، عمل القذافي طوال عهده على تهميش المناطق الشرقية (طبرق)، التي كانت قبل الثورة المعقل الرئيس للنظام الملكي، وبطبيعة الحال المناطق الجنوية (فزان وسبها)، وذلك لصالح المناطق الشمالية الغربية (إقليم طرابلس)، فانتعشت مدن مثل طرابلس وسرت وغيرهما، على حساب المناطق الأخرى، وخصوصاً المناطق الشرقية، التي تأتي معظم خيرات البلاد النفطية من أراضيها. وانسحبت التناقضات المناطقية والقبلية على الأقليات العرقية.
ونتيجة لعوامل عدّة، بينها النزعات الإفريقية المتذبذبة للعقيد الليبي من جهة، والصراعات التي خاضه ضد دول الجوار من جهة ثانية، منح القذافي الكثير من الامتيازات للطوارق في بعض الأحيان ــ وحجبها عنهم في أوقات أخرى ــ بينما ناصب العداء للتبو، فكان أن أصبحت قبائل عدة من الأقلية الأولى موالية له، بينما ظلت الغالبية الساحقة من الأقلية الثانية معادية لنظامه، وانضمت سريعاً إلى «ثورة 17 فبراير».
أما على المستوى الطبقي والديموغرافي، فقد اصطنع القذافي، تحت شعار تحقيق «العدالة الاجتماعية»، تناقضات من نوع جديد، إذ اسهمت عمليات نقل السكان إلى «الشعبيات» خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم في اندلاع نزاعات على الأراضي بين أهالي المدن والوافدين إليها من الأرياف، وكذلك بين البرجوازية الصغيرة وطبقة الموظفين التي استوطنت تلك التجمعات السكانية المستحدثة.كذلك، لم تسلم القوات المسلحة الليبية ــ الجيش والشرطة على حد سواء ــ من سياسة «فرّق تسد»، فقد حرص القذافي على إبقائها مجزأة على اساس قبلي ومناطقي، وذلك لقطع الطريق على أي انقلاب عسكري يطيح بحكمه، ففضّل كتائب على كتائب أخرى، وأدخل التناقضات المناطقية خصوصاً إلى داخل جهازه العسكري الأمني. ولذلك، فقد كان من الطبيعي أن تطفو كل النزاعات على السطح ما إن أسدل الستار على العقود الأربعة لنظام العقيد الليبي.
إفرازات «ثورة 17 فبراير»
حين بدأت عسكرة «ثورة 17 فبراير» إثر القمع العنيف الذي ووجهت به التظاهرات المناهضة للنظام من قبل الكتائب الأمنية التابعة لقوات القذافي، بدأت تتشكل المجموعات المسلحة في المدن «المحررة». يومها كان «الثوار» ملتفين حول هدف موحد، وهو إسقاط النظام، ولذلك فإن التناقضات الكامنة بين المجموعات المسلحة التي تشكلت وقتها لم تتكشّف سوى في أوقات متأخرة من الحرب ضد القذافي. ومع ذلك، فإن مسار الصراع كان قد خلق أمراً واقعاً جديداً على الأرض، إذ سارعت المدن الموالية للنظام أو تلك المحايدة إلى تسليح نفسها خوفاً من أعمال انتقامية، وهو شعور عززته الآلة الإعلامية لنظام القذافي وبعض الممارسات الشاذة التي ارتكبتها المجموعات المسلحة ضد المدن الموالية لهذا النظام. وبالرغم من أن معظم المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة قوات القذافي استسلمت بشكل براغماتي للنظام الجديد، وبالرغم من أن المجموعات الثورية المسلحة فضلت عدم دخول تلك المدن عنوة، خشية تكرار السيناريو العراقي، إلا أن الفترة التي تلت سقوط نظام العقيد القذافي شهدت تشكيل مئات المجموعات العسكرية من شرق البلاد إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، وذلك لأسباب عدّة أبرزها:
ــ الدعوة التي وجهها المجلس الوطني الانتقالي لتشكيل مجالس محلية مدنية وأخرى عسكرية لحفظ الأمن في البلاد.
ــ الانتهاكات التي ارتكبتها بعض الكتائب «الثورية» بحق سكان المدن الموالية للنظام أو حتى المحايدة (بني وليد، تاورغاء، الزنتان... الخ).
ــ الصراعات التاريخية وانعدام الثقة بين مكونات المجتمع الليبي.
ــ انتشار السلاح بشكل غير مسبوق نتيجة لعمليات النهب التي طالت مخازن السلاح والانفلات الذي ساد النقاط الحدودية.
ــ ضعف سيطرة المجلس الوطني الانتقالي على الغرب الليبي.
ــ انشطار المجموعات المسلحة الوليدة نتيجة للخلافات الحادة في صفوفها، ما أدى إلى تشكيل مجموعات صغيرة (20 ــ 30 عنصراً في بعض الأحيان) غير خاضعة لسيطرة القادة المعروفين.
ــ بروز التنظيمات الجهادية المتشددة في العديد من المناطق الليبية، وقد وجدت في سقوط النظام فرصة مناسبة لتعزيز نشاطها ليس في ليبيا فحسب وإنما في المغرب العربي ومنطقة الساحل (وهو ما تبدّى لاحقاً في التطورات التي شهدتها مالي والجزائر وتونس).
ــ اختراق عصابات الإجرام للعديد من المجموعات المسلحة.
ــ بروز النزعات الانفصالية في الشرق (فدرالية برقة). وبالنظر إلى تلك العوامل كان متوقعاً أن تشهد ليبيا اشتباكات يومية بين كل المجموعات المسلحة الوليدة، والتي باتت تقدّر اليوم بنحو ألفين.
وإذا كانت الاشتباكات التي حدثت في الأسابيع الأولى التي تلت مقتل القذافي قد دارت على خلفية الولاء للنظام القديم من عدمه، فإن تطوّر الأحداث على المستوى السياسي قد ولّدت صراعات من نوع جديد، أبرزها:
ــ الرغبة في الانتقام وتصفية الحسابات القديمة والجديدة
ــ شعور بعض المجموعات بأنها فقدت امتيازاتها السابقة (المدن والقبائل والمجموعات العرقية التي كانت موالية للقذافي).
ــ شعور بعض المجموعات الثورية بأن فئات لم تشارك في الثورة قد خدعت في النظام الجديد.
ــ الصراع على الموارد المالية وخصوصاً في المناطق الحدودية (زوارة، الكفرة، سبها).
ــ محاولة بعض المجموعات داخل البلدان المدن فرض سيطرتها بالقوة على المجالس المحلية وإقصاء ممثليها الحقيقيين (بني وليد نموذجاً).
المرحلة الانتقالية: سياسات متخبطة
بعد سقوط نظام القذافي، وجد المجلس الوطني الانتقالي نفسه أمام واقع بالغ الصعوبة، من أبرز ملامحه انهيار القوات المسلحة والمؤسسات الأمنية، وعدم القدرة على فرض السيطرة في الغرب، والتناقضات الحادة بين رفاق السلاح. لم يكن أمام العهد الجديد سوى التسليم بالأمر الواقع، فسمح للمجتمعات المحلية بالدفاع عن نفسها وفرض السيطرة على المناطق التابعة لها، بانتظار إعادة هيكلة مؤسسات الدولة المنهارة ودمج المجموعات المسلحة في القوات المسلحة والمؤسسات الأمنية.
وانطلاقاً من ذلك، فقد دعا المجلس الوطني الانتقالي المدن والبلدات الليبية إلى تنظيم أنفسها على المستويين الإداري والأمني عبر تشكيل مجالس محلية مدنية وأخرى عسكرية. كما وجه الدعوة لـ«الحكماء» إلى الاضطلاع بدورهم في حل النزاعات المحلية، وبينما اسهمت بعض تلك الإجراءات في تحسين الوضع الأمني نسبياً في بعض المدن، إلا انها أوجدت تعقيدات إضافية غذتها السياسات العشوائية للمجلس الوطني الانتقالي، وتراخي السلطات الجديدة أمام قوى الأمر الواقع، ناهيك عن الصراعات السياسية والفساد السياسي. ومن أبرز سمات السياسات العشوائية التي اعتمدتها السلطات الانتقالية في مقاربة الملف الأمني كان الترخيص لمئات الكتائب المسلحة من دون حسيب ورقيب، إذ كان يكفي لمجموعات تضم بضع عشرات من المسلحين أن ترفع العلم الثلاثي الألوان كي تصبح كتيبة مفوضة من قبل وزارة الدفاع أو وزارة الداخلية، بصرف النظر عن مدى اختراق «فلول» القذافي أو حتى عصابات الإجرام لتلك المجموعات.
وفي إطار الحديث عن العشوائية والتخبط اللذين اتسمت بهما الخطة الأمنية يمكن الحديث عن «اللجنة الأمنية العليا» التي شكلتها وزارة الداخلية، والتي تدفق إليها مئات الآلاف من العاطلين عن العمل نتيجة للرواتب المغرية التي قدمت الى هؤلاء (نحو 1200 دولار)، ما أدى الى تعزيز قوة تلك الهيئة ــ الخاضعة اسمياً لوزارة الداخلية ــ على حساب جهاز الشرطة الرسمي.والأمر نفسه انسحب على وزارة الدفاع التي قامت بتشكيل ما يعرف بـ«درع ليبيا» كقوة اسناد واحتياط للجيش الليبي. وعلاوة على الرواتب المغرية التي قدمت للمسلحين المنضوين في تلك القوة (1900 ــ 3200 دولار للفرد الذي يخدم شهراً واحداً خارج بلدته)، وهو ما خلق واقعاً مشابهاً لحالة «اللجنة الأمنية العليا»، فإن الصراع بين وزير الدفاع أسامة الجويلي (مدني) ورئيس الأركان يوسف المنفوش (عسكري) قد انعكس بشكل أو بآخر على العلاقة بين «درع ليبيا» (الخاضعة لقادة المجموعات المسلحة) والجيش النظامي.
كذلك، فإنّ الصراعات القائمة بين مكونات النظام الليبي قد اسهمت في إخفاق معظم الخطط الأمنية في تحقيق نتائجها المرجوة. ولعلّ أبرز مثال على ذلك، تعطّل عملية دمج المجموعات المسلحة في الهيكليات الرسمية نتيجة للصراع بين الحكومة الجديدة والجهاز البيروقراطي القديم، والأزمة التي عصفت بـ«اللجنة الأمنية العليا» بعد الانتقادات الحادة ــ ذات الخلفية السياسية ــ التي تعرضت لها بعد فشلها في حماية الأضرحة الصوفية من هجمات السلفيين في نيسان العام 2012.
لعل كل ما تقدم قد أسهم في تأجيج الانفلات الأمني الذي يواجهه الليبيون، والذي بلغ مستويات خطيرة خلال الأسابيع الماضية، ما ينذر بعواقب لا تحمد عقباها، تتحول ليبيا معها من دولة مركزية يحكمها ديكتاتور فرد إلى دولة مفككة يحكمها أمراء الميليسشيات.
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفير العربي"]